مقدمة أساسية
بموجب تخصصي الأكاديمي الذي ينصب في النقد الفني وبموجب انشغالي بالثقافة عامة، وبالفن خاصة، طرح علىَّ أحد الأشخاص سؤالا وجدته في استفزازه لا يقل عما ينم عن سطحية صاحبه وجهله. «يا دكتورة الثقافة والفنون،هل العُماني في حاجة إلى دار للأوبرا ؟ وهل هو مؤهل علميًا وثقافيًا وفكريًا بأن يستوعب فن الأوبرا؟»
قدر ما فرض عليَّ وضعي الوظيفي وكذا آداب الحوار الإجابة على السؤال، قدر ما أثار السؤال استفزازي ودهشتي واستغرابي، لاسيما وإنه صادر من شخص من حملة الدكتوراه أو هكذا من المفترض أن يكون. وحيث إن لا وجود للدكتوراه في الثقافة مطلقًا ولا في الفنون عامة، وبحكم ما لي من ملكة نقدية فطرية ومكتسبة قرأت على الفور ما يستبطنه السؤال من سخرية. فقررت أن أرد بطعنة فاتكة حيث قلت له: إنني سمعت كثيرًا عن درجات دكتوراه يتم شراؤها كنت أظنها إشاعة إلى أن قابلتك، منكم نتعلم ونستفيد.
في مثل هذه المواقف ينقلب شعوري بالاستفزاز إلى حافز ودافع قوي للكتابة في موضوعات كانت مؤجلة نسبيًا في أجندة مقالاتي، من هذه الموضوعات الحديث عن فن الأوبرا الذي كنت أريد الشروع فيه حين افتتاح «دار الفنون الموسيقية» رسميًا، خاصة وإنني من قبل كتبت مقالات كثيرة في الصحف المحلية والعربية عن السيمفونيات، والكونشرتات وموسيقى الأوبرا التي عزفتها الأوركسترا السيمفونية السلطانية العُمانية .
علاقة العماني بفن الأوبرا
غني عن البيان أن المرجعية التاريخية لمدنية الشعب العُماني وحضارته، تعود إلى ما قبل القرن السادس عشر الميلادي، وما خلفه العمانيون من حضارة إسلامية في منطقة شرق أفريقيا فضلاً عن كتب التاريخ تقف شاهد عيانٍ على ذلك.
ومعنى هذا أن المواطن العماني جاب بلاد العالم شرقًا وغربًا وتعرف على فن الأوبرا، ولأن السياسة الحكيمة لمولانا حضرة صاحب الجلالة – حفظه الله ورعاه - ملمة بالماضي التليد لشعبه وسنوات نهضته المجيدة هي امتداد لحضارة العماني وتأكيد لماضيه التاريخي، فإن إنعام جلالته بتأسيس دار للفنون الموسيقية هو صرح فني يضاف إلى إنجازات النهضة المباركة و تتويجًا لرقي فكر القائد، وترسيخًا لذائقة شعبه الفنية من منطلق أن الناس على دين ملوكهم .
وعليه فإن وجود دار لفن الأوبرا يعد مسألة حتمية من مراحل تطور الشعب العُماني ؛ لأن الأوبرا جنس من أجناس الفنون وعبقرية الشعوب تقاس بقوة الفنون فيها، اعتمادًا على أن كلمة « فن» تعني المقدرة العقلية والشعورية على الإبداع، عبر إعادة الصياغة والتشكيل لفكرة أو لموضوع أو لشيء ما، وحين نقول إعادة الصياغة معنى ذلك أن الطرح الجديد لابد أن يكون مضيفًا لما هو موجود في الواقع الموضوعي، مع الوضع في الحسبان ليس كل أو أية إضافة تعد فنًا. أي لابد أن تكون تلك الإضافة التي باستطاعتها تحريك الآخر ( الجمهور). فما الفن سوى التناسج المُحبك بين أضلاع مثلث، يمثل ضلعه الأول المرْسِل ( الفنان)، والثاني الرسالة (الفن المُقدَم)، والثالث المُرْسَل إليه ( المتلقي/ الجمهور).
أو دار الفنون الموسيقية
غني عن البيان أن المكرمة السامية بإنشاء دار الفنون الموسيقية بمنطقة الصاروج بالقرم، تعد صفحة من الصفحات التي لا تحصى من العهد الزاهر والميمون لمولانا حضرة صاحب الجلالة - حفظه الله ورعاه – كما تعكس النظرة الثاقبة والاهتمام السامي بالفنون الموسيقية والمسرحية.
وصرح دار الفنون الموسيقية، باعتباره مشروعًا فنّياً وثقافيًّا فريدًا من نوعه، من المقرر- بناءً على ما نُشر في جريدة عُمان 13مايو 2007م- الانتهاء منه بحلول صيف 2010م. هذا الصرح لا يوجد ما يماثله في الشرق الأوسط وربما في العالم،من حيث المواصفات ذات التقنيات العالية في المجالين المسرحي والغنائي فضلاً عن نقاء الارتداد الصوتي.
ولَمَا كان ضمن أهداف إنشاء دار الفنون الموسيقية إبراز معلم فني يعد إضافة مهمة لتاريخ وثقافة السلطنة، فإن التصاميم المعمارية لواجهات المبنى جاءت في فنيتها مازجة بين العمارة العربية والإسلامية . كما أن التفرد المعماري لهذا الصرح يتضح من مفردات التصاميم الداخلية بما فيها من القاعة الرئيسية، والإضاءة،وأنظمة الصوت، وخشبة المسرح المتحركة، ومقاعد جلوس المنفردة في التصميم من حيث قابليتها للتعديل، ثَم يمكن التحكم فيها وفي مساحة المسرح، بحيث تمتد هذه المساحة من 800 مقعد إلى 1100 حسب نوع العرض المُقدَم سواء أكان أوبرا أم مسرحًا أم عرضًا موسيقيًا.
وضمن المميزات الفريد لخشبة المسرح احتواؤها على برج علوي بارتفاع 32 مترًا، لتسهيل التشكيلات المسرحية خلال الأداء، فبناءً على النوع الإخراجي للفن المُقَدم يمكن توسعة خشبة المسرح تضييقها، ومما لا شك فيه أن تشييد قاعة مسرح تتضمن كل هذه الجوانب العالية التقنية والشديدة التعقيد يعد تحديًا كبيرًا. كما أن اللمسات الفنية الجمالية لقاعة دار الفنون الموسيقية تمتد لتشمل المقصورة السُلطانية، ومقاعد كبار الشخصيات والشرفات التي تتكون من ثلاث طبقات على الجانيين.
الأداة التعبيرية لفن الأوبرا
ولكل جنس من أجناس الفنون أداة فنية وأحيانًا أكثر من أداة، والمقصود بالأخيرة ما يتم التعبير بها. فالأدب يعبر عنه بالكلمة، والرسم باللون، والتصوير الفوتغرافي بالضوء، والنحت بالكتلة، والموسيقي بالنغم والغناء بالصوت...إلخ. إذن ما هي الأداة الفنية لفن الأوبرا؟ وإلى أي جنس من أجناس الفنون ينتمي هذا الفن؟ وما الذي يميزه عن الفنون الأخرى؟ وما الذي تعنيه كلمة أوبرا Opera وما المدارس الفنية لهذا الفن ؟ وما التطور التاريخي لهذا الفن؟ كل هذه الأسئلة وغيرها سنحاول الإجابة عنها في مقالات قادمة.
فن الأوبرا يعد فنًا من الفنون المسرحية الموسيقية الغنائية، وطالما أن هذا الفن يحوي مفردات المسرح والموسيقى والغناء، معنى هذا أنه يحوي أكثر من أداة تعبيرية فالمسرح بما فيه من تمثيل ورقص يتطلب الحركة مع توافر التعبير واللياقة وكذا التدريب والإتقان، والغناء يتطلب الصوت والكلمة واللحن، والموسيقي تتطلب النغم، ليس هذا فقط، بل هناك أدوات تعبيرية أخرى يتم توظيفها في الفن الأوبرا كالثياب والمكياج والإضاءة ورسوم المناظر على المسرح، فضلاً عن تشكيل المجموعات الغنائية والراقصة، وعبقرية فن الأوبرا تنبع من الاحتراف الفني لتوظيف كل هذه الأدوات حيث الحاجة إلى قدرات وملكات عالية.
وكما تنسب القصيدة إلى الشاعر والقصة إلى الكاتب والفيلم السينمائي إلى المخرج...إلخ، فإن الأوبرا بوصفها فنًا مسرحيًّا يعتمد على عنصري الموسيقى والغناء بشكل أساسي تنسب إلى مؤلفها الموسيقي، رغم احتوائها على أدوات تعبيرية أخرى.
معنى كلمة الأوبرا لغة واصطلاحًا
كلمة الأوبرا Opera لغة هي كلمة إيطالية الأصل، وهي مأخوذة من صيغة الجمع لكلمة لاتينية Opus وتعني العمل الدرامي الشعري المغنى. وكلمة Opera اصطلاحًا تطلق على كل مسرحية مغناة تجمع بين الموسيقى، والشعر، والتمثيل والرقص المعبر الذي لا يتحقق إلا عبر المرونة والتدريب الطويل.
المرجعية التاريخية لفن الأوبرا
والأوبرا فن غربي أوروبي بحت، وهي في ظاهرتها الأولى تشكل محاولة لإيجاد أسلوب لإلقاء الشعر بالمسارح الإغريقية القديمة، تلك التي كان يلقى الشعر بها بأسلوب ترنيمي، حيث ينحصر دور الموسيقى في مصاحبة غناء الكورس أي ( المجموعات الغنائية). وإن كان هذا مجرد رأي البعض، لكنه يفتقر إلى الوثيقة التاريخية. الأمر الذي لا خلاف عليه أن هذه الظاهرة أدت إلى محاولة إيجاد شكل فني جديد من أشكال الفنون يجمع بين المسرح والموسيقى يسمي بـ«الأوبرا» ففي القرنين الثالث عشر والرابع عشر الميلادي قدمت الأوبرا على شكل تمثيليات دينية لها علاقة مثلاً بمولد المسيح وبعثه، فضلاً عن قصص من العهد القديم.
بيد أن مرجعية الأوبرا التاريخية باعتبارها فنًا تعود إلى بداية القرن السادس عشر الميلادي حين تشكلت في إيطاليا وتحديدًا في « فلورنسا» جماعة من المؤلفين والشعراء، هدفهم إحياء المسرحية اليونانية القديمة، فضلاً عن معرفة كيفية استخدام الإغريق للموسيقى بمصاحبة التمثيل.
وحين نقول الأوبرا بوصفها فنًا نقصد بذلك الشكل أو القالب الفني المعين لها، والذي تبلور في إيطاليا مع منتصف القرن السابع عشر، وتتحدد أهم ملامح هذا القالب في التركيز على الغناء المنفرد، التجاهل النسبي لغناء الكورس ولموسيقى الآلات، وكذا انفصال الحوار أو الكلام الملحن عن الأغنية الأوبرالية، التي تتخذ أساليب وأنماط مختلفة في التعبير.
المدارس الفنية للأوبرا
تنتمي الأوبرا من حيث أسلوب التعبير بصفة عامة إلى المدارس الفنية الكبرى وهي: المدرسة الكلاسيكية والرومانسية والواقعية وإن كان هناك أوبرات أخرى تنتمي إلى المدرسة الرمزية وغيرها من المدارس.
وبعيدًا عن التتبع التاريخي لنشأة هذه المدارس أو مؤسسيها ، فحين نقول أوبرا كلاسيكية، معنى ذلك أنها تنتمي إلى القوانين الصارمة التي يجب على الفن الحفاظ عليها، والفنان اتباعها، وهذه القوانين نابعة من القيم الذهبية التي نادى بها أفلاطون والتي في مجملها ترى أن هناك نماذج تشكل معايير عامة للتناسق والتوازن والجمال والاعتدال،وأن لكل قيمة من قيم الحياة التي نعيشها نموذجًا مثاليًا، فالحب مثلاً له نموذج، والعدل له نموذج والتضحية لها نموذج والبطولة لها نموذج ... إلخ. وعليه فهذه المدرسة ترفض أي جموح في التعبير عن العواطف إذ تعد ذلك تطرفًا في مفهومها.
وعلى نقيض المدرسة الكلاسيكية التي تتخذ من القوالب الثابتة والمعدة مسبقًا نماذج للمحاكاة في أسلوب التعبير، تأتي المدرسة الرومانسية لتتخذ من النفس الإنسانية وكل ما تزخر به من مشاعر وخيال منبعًا للتعبير، حيث تطلق هذه المدرسة العنان لأحاسيس الإنسان كي تكون على سجيتها لتعبر عما بداخلها وتسمح لها أن تستجيب لما حولها حسب أهوائها، فنجد العاطفة بكل عنفوانها هي الغالبة في التعبير الفني، التي قد تكون تارة سوداوية وأُخرى مبهجة، وتارة ثالثة خيالية إلى درجة الانفصال عن أرض الواقع.
بينما تأتي المدرسة والواقعية لصيقة بهذا الواقع حيث تتخذ من قضايا الإنسان ومشاكله سواء الداخلية (أي الكائنة داخل نفسه) أو الخارجية ( أي المطروحة في واقعه الموضوعي) موضوعًا لفنها، وهي في ذلك إما تكتفي بعرض المشكلة أو طرح الحلول الواردة من العقل ومن الفعل الإنساني .
وتعتمد المدرسة الرمزية على الرمز في التعبير. والرمز قد يكون كلمة أو شيئا آخر يشير إلى موضوع ما في الواقع الخارجي أو غير الواقع الخارجي . التفاحة- مثلاً- قد تكون رمزًا للحب ورمزًا للخطيئة، والطير قد يكون رمزًا للانطلاق والحرية وقد يكون رمزًا للموت والهلاك. إن ما يميز الرمز من اللارمز أن الأول يكون مفعمًا بالدلالات والمعاني التي يكتسبها عبر التكرار في التوظيف داخل العمل الفني، أو عبر مرجعيات (خلفيات) مختلفة، قد تكون خرافية أو شعبية أو تاريخية أو عقائدية. والرمز داخل العمل الفني يكتسب دلالته أي معناه من السياق ككل، ومن طبيعة التوظيف وكيفيته (أي الطريقة التي ورد بها الرمز) داخل العمل الفني.
الأوبرا فن نخبوي
فن الأوبرا من حيث النوع هو فن نخبوي، شأنه في ذلك شأن الفنون النخبوية الأخرى كفن الباليه والموسيقى الكلاسيكية مثلاً، ونعني بفنون النخبة الفنون التي لا ترتقي إليها الذائقة الشعبية العامة؛ لأن استيعاب الأوبرا وتذوقها يحتاج إلى ثقافة خاصة ومعايير فكرية ونفسية معينة. ونخبوية الأوبرا كفن لا توجد فحسب في البلاد الشرقية أو العربية بل الغربية كذلك. وقد اختلفت العوامل التي أهلت لهذه النخبوية منها صعوبة التواصل مع اللغة، إذ النص الأوبرالي كان يكتب في الأصل بالإيطالية، ثم كتب بعد ذلك بلغات أخرى كالألمانية والفرنسية والإنجليزية والروسية...إلخ مما خلق صعوبة في تواصل الجمهور مع هذه اللغات. وهناك رأي آخر يرجح انحصار هذا الفن بين النخبة مرجعه أن الأوبرا في بداية ظهورها 1600م، ارتادها نوع من الجمهور دون أدنى مستوى معرفي أو ثقافي بشأنها، ثَم كان شغلهم الشاغل تبادل الأحاديث والتسلية والترفيه، مما أدى إلى تحول حفلات الأوبرا إلى مكان محفز للقاء الأحبة والأصدقاء، دون إعارة اهتمام لِمَا يجري على خشبة المسرح. لجملة هذه الأسباب وأخرى غيرها، شعر الإنسان العادي والبسيط أن الأوبرا ما هي إلا ضجيج وصريخ مبهم وغير مفهوم.
الذائقة الفنية التراكمية
كل ما سبق لا يفتقر إلى الصحة، بيد أن هناك قاعدة أخرى في الثقافة والفنون تقر بالتعود أو التراكمية التي تؤدي بالجمهور إلى نتائج إيجابية. فلا خلاف على أن الأذن والعين بوصفهما حواس باستطاعتنا تشكيل ذائقتهما الفنية عبر التعود والمراس، فالأذن إذا ألفت نغمًا أو لحنًا رفيعًا لن تقبل الهابط من الموسيقى والعين كذلك. وعليه فإن ارتقاء الذائقة الفنية في أي شعب يرتبط بارتقاء الفنون فيه.
ومثال تطبيقي على ما أقوله الأوكسترا السيمفونية السلطانية العُمانية التي هي أحد رموز التحضر، وواحدة من معالم الثقافة بالسلطنة، حين أمر مولانا حضرة صاحب الجلالة – رعاه الله - بأنشائها في عام 1988م لم يكن لسيمفونياتها وموسيقاها الشيوع الموجود لها الآن بين عامة الشعب العُماني، وأكبر دليل على ذلك مَنْ يحضر الآن أية حفلة من حفلات الأوكسترا، سيلاحظ اتساع حضور الجمهور العُماني. ليس هذا فحسب، بل من خلال متابعتي لعروض النافورة المائية «بحديقة القرم الطبيعية» والتي يُحدد لها أوقات بعينها من مساء يوم الخميس، لاحظت قدوم عائلات عُمانية من المناطق المختلفة لمتابعة عروض النافورة المصحوبة بألوان ضوئية، وموسيقى لسيمفونيات عالمية مثل مقطوعات من رقصة « حكايات من غابات فيينا» (Tales From The Vienna Woods ) لمؤلفها «يوهان ستراوش» 1868م (Johann Strauss)، ومثل السيمفونية الخامسة الشهيرة لـ« تشايكو فسكي» التي ألفها عام 1888م وغيرها من سيمفونيات عالمية، ومقطوعات موسيقية من عروض الباليه الشهيرة.
وحيث انني أؤمن بأن الإنسان هو أصدق المنابع للحس المعرفي، قبل أن تأخذ هذه المعرفة شكلها المركب. من ثم فإنني في كل مرة أُصر على محاورة هؤلاء من العمانيين بمختلف أعمارهم وأجناسهم ومستواهم التعليمي، للوقوف على الدافع الحقيقي لمجيئهم لمتابعة عروض النافورة بالحديقة، خاصة وإنني لاحظت أن عددًا كبيراً يكرر مجيئه رغم أنه يقطن مناطق بعيدة.
فيبدأ حواري دائمًا بأسئلة على شاكلة ما الذي تحبه في هذا العرض؟ أتحب هذه الموسيقى؟ هل تعرف هذه الموسيقى؟ من المؤكد حين أطرح مثل هذه الأسئلة لا أتوقع من أي شخص من هؤلاء أن يجيب فيقول: «إنني أعشق سيمفونية يوهان ستراوس، حكايات من غابات فيينا؛ لأن مؤلفها بحق استطاع أن يقدم نموذجًا موسيقيًا، أو موسيقى معبرة لموضوع الرقص، مستوحيًا إياه من مكان بعينه بغابات فيينا التي اشتهرت بالرومانسية ولقاءات العاشقين». كما لا أتوقع أيضًا أن تكون إجابته« أنا أتذوق بشكل خاص السيمفونية الخامسة لـ تشايكو فسكي؛ لأنها مفعمة بالمشاعر والأحاسيس، و تعد نموذجًا موسيقيًا يعكس أعلى درجات الإبداع التي وصل إليها المؤلف، كما تنطوي هذه السيمفونية على نزعة نفسية تصف دواخل تشايكو فسكي باعتباره إنسانًا( أو معادلاً موضوعيًا للإنسان Objective Correlative ) في حالات البحث عن الذات». ولا أتوقع في هذه المواقف أن يقدم لي الشخص قراءة تحليلية أو دلالية لكل جملة موسيقية يسمعها.
كل ما سبق لا أتوقعه لأنه ينتمي إلى إجابات النخبة المميزة بمستواها الثقافي الرفيع، لكن الإجابات التي تأتيني هي الإجابات الانطباعية التي أعدها في انطباعيتها أقوى من كل ذلك لأنها تؤكد أن تكرار الطرح يشكل ذائقة فنية للأذن وللعين، فيقول الشخص مثلاً : « نعم أعرف هذه الموسيقى هي ذاتها التي أراها واسمعها في التلفزيون بعد نشرة الأخبار» ويقصد بذلك مقاطع من حفلات الأوكسترا السيمفونية السلطانية التي تبث بالتلفزيون أو أن يقول « نعم أحب أن أسمع هذه الموسيقى، أسمعها كثيرًا بالراديو والتلفزيون، وأسمعها هنا مع الشرطة» قاصدًا بذلك الفرق الموسيقية الخاصة بشرطة عُمان السلطانية التي تقدم أحيانًا، لا سيما في المناسبات والمهرجانات، عروضًا موسيقية.
خلاصة ما أريد الوصول إليه في هذه النقطة بالذات أن الفجوة الزمنية بين 1988م تأريخ نشأة الأوركسترا السيمفونية العُمانية ووقتنا الحالي، ليست واسعة، ومع ذلك استطاع تكرار الطرح أو ما يسمى بالتثقيف التراكمي، أن يصل بالمواطن العادي إلى مستوى أولي من التذوق أمكنه أن يميز بين الموسيقى الكلاسيكية غيرها من أنواع الموسيقى الأخرى، رغم أنه لا يعلم مسماها الفني تحديدًا .
وعليه، فإن طرح الأوبرا بوصفها فنًا في السلطنة أتصور أنها بعد عدة عقود سيكون لها جمهورها العريض من العمانيين، لاسيما وأن السلطنة تزخر بِمَنْ يتقنون اللغة الإنجليزية، هذا على اعتبار أن أول طرحها من المتوقع أن ألا يكون باللغة العربية. واعتمادا على أن نظام العروض الأوبرالية المعروضة عالميًا إذا تم عرضها بلغة غير لغة الأم للبلد، عادة ما تكون مصحوبة بشاشات تعرض ما يقدم على المسرح وتترجمه.
الأوبرا نوعًا وصوتًا
الأوبرا من حيث النوع تنقسم إلى نوعين: الأوبرا الفخمة Grand Opera، والأوبرا الهزلية Comic Opera ونقطة التشابه بينهما تكمن في أن كلاهما ينتميان من حيث النوع الفني إلى الدراما الموسيقية الغنائية، بينما ما يميز بينهما مساحات الحوار والغناء داخل هذه الدراما.
وحين نقول دراما معنى ذلك أن هناك قصة ما ستطرح على المسرح سواء أكانت هذه القصة ملهاة( كوميديا) أو مأساة. وطالما أن هناك قصة فلابد من بداية ووسط ونهاية لها. والاختلاف بين هذه القصة وأية قصة أخرى، أن عرضها على المسرح يعتمد بشكل أساسي على الموسيقى والغناء، أي كل العناصر الفنية لهذه القصة وبما فيها الحوار لابد أن تأتي في هذا القالب.
الأوبرا الفخمة سميت بهذا المسمي لأنها عبارة عن عمل فني يتسم بالكمال والشمولية، لاستخدامه الموسيقي والشعر كأدوات تعبيرية على المسرح، ولتعبير هذا العمل عن مكنون المشاعر الإنسانية بكل ما فيه من أحاسيس مركبة ومتضاربة ومختلفة وجامحة، لاحتمالية احتوائه على مواقف هزلية.
بينما تسمية النوع الثاني من الأوبرا بالأوبرا الهزلية، لا يعني بالضرورة أن يكون موضوعها الرئيسي هو الهزل أو الضحك، فقد تكون بعيدة كل البعد عن هذا الأخير، وغالبًا ما يكون موضوعها عاطفيًا خفيفًا وهو ما يسمى بالأبريت (Operetta)، يجمع بين عنصري الحوار والغناء.
وبصفة عامة طبيعة موضوع الأوبرا هو الذي يحدد شكلها الفني، فإذا كانت الكوميديا موضوعها، يُشكَل لها قالبًا موسيقًيا سهلاً مستساغًا وذو شكل بهيج. وإذا كانت الرومانسية موضوعها يكون قالبها الموسيقي مؤكدًا لقصة عاطفية قوية، وحوادث مثيرة للانفعالات النفسية. وقد تأتي الأوبرا خفيفة يسيطر عليها الموضوعات السهلة التي تقل فيها الحوادث المثيرة المعقدة، كما قد تأتي قصيرة تنحصر في فصل واحد وتنقسم إلى عدد من المناظر والمشاهد.
والذي يتابع أي عرض أوبرالي سيلاحظ أن الأوركسترا تصاحب الغناء من بداية العرض إلى نهايته، وأن الفرقة تقاد بقائدين ( نقصد المايسترو؛ قائد الفرقة الموسيقية ) أحدهما يكون المسؤول الأساسي عن الأوبرا بأكملها، ومكانه فوق المنصة فبإمكان الجمهور مشاهدته،أما الثاني فيكون داخل المسرح، وتكون مهمته إعطاء التعليمات إلى الممثلين، وإلى المجموعات الغنائية ( الكورس).
وبما أن الغناء يعتبر عنصرًا أساسيًا في عروض الأوبرا، فإن طبقة الصوت ودرجته بالنسبة للرجال والنساء تلعب دورًا رئيسيًا في التعبير عن المعاني المبتغاة من الأغنية . ولذا فإن أصوات الرجال في الفن الأوبرالي تنقسم إلى ثلاثة أنواع: النوع الأول ( التنور) وهو درجة صوتية عالية توظف في حالات الاحتياج إلى إظهار العواطف والانفعالات كالغضب والحزن والحب والانتقام والقسوة والغيرة ونشوة الانتصار، فضلاً عن مواقف القوة. وهناك طبقة أخرى من نوع صوت التنور تتميز درجته بالاعتدال والتناسب، ثم توظف عادة في أداء الأدوار البطولية .
والنوع الثاني من أصوات الرجال صوت (الباريتون)، وهو طبقة صوتية ذات إمكانيات واسعة، ومن ثَم توظف في تأدية الأدوار التي تتسم بالعمق. أما النوع الثالث فهو ( الباص) وهو أكثر الأصوات انخفاضا في درجته وتعمقًا.
وبالانتقال إلى أصوات النساء فهي تنحصر في ثلاث طبقات أيضًا، الحاد منها ويسمى (سوبرانو) وهو صوت خفيف مرتفع يخصص لأداء الألحان العاطفية . والنوع الثاني يسمي بــ ( الميزوسوبرانو) ويمتاز بمداه الواسع في التعبير عن الانفعالات المختلفة والعواطف. أما النوع الثالث ويطلق عليه ( الكنتر ألطو) وهو الصوت الغليظ لدي النساء ويوظف في تأدية التعبيرات العاطفية العميقة.
لا أريد أن أثقل على قارئي العزيز بسرد تاريخي طويل عن أشهر أديرة الأوبرا العالمية غربًا وشرقًا، فضلاً عن أسماء العروض الأوبرالية أو مؤلفيها أو تقديم تحليل أو قراءات لهذه العروض إيمانًا مني بأن الأوبرا فن يقتضي معرفته وتذوقه، الرؤية العينية. ولكن أود أن أختم هذه الفقرة بمعلومة أرها مهمة وهي أن الشعر العربي رغم أنه - في الأصل- نشأ نشأة غنائية فإنه لم يتطور ليشكل مسرحًا غنائيًا إذ هذا التطور يتطلب حياة مدنية ونمط ثقافي رفيع.
ومع ذلك شهد القرن التاسع عشر مولد المسرح الغنائي العربي بشكله البسيط في سوريا ومصر، وهو أمر لا يعد غريبًا إذ معظم الفنون الحديثة كالمسرح والمقال والرواية والأوبريت ...إلخ لم يعرفها العرب إلا عقب الحملة الفرنسية على مصر (1798- 1801 م). فرغم أن الهدف الأساسي من الحملة التي قادها نابليون بونابرت Napoleon Bonaparte ، تحويل مصر إلى قاعدة استراتيجية تكون نواة للإمبراطورية الفرنسية في الشرق، فإن فترة مكوث الفرنسيين في مصر تعد نقطة تحول وملتقى حضاريا بين الغرب والشرق . ومن ثم تعرف المسرح العربي ولأول مرة عبر شعره الغنائي على فن الأوبريت، ورغم أن الأخير حين ولادته الأولى لم تتوفر فيه كل الشروط الفنية بمفهومها الغربي، فإن ذلك لم يحل دون ميل كثير من الجمهور إليه. وفي مقابل ميل الذائقة العربية للغناء والموسيقى فإن العروض الأوبرالية في البلاد العربية محدودة مقارنة بالغرب، كما أن عروض الأوبريت قلت عما كانت عليه في بداية القرن التاسع عشر، ويعزو بعض الباحثين ذلك إلى ارتفاع تكاليف عروض الأوبرا ومتطلبات هذه العروض من قدرات صوتية في الغناء ومهارة في التأليف والتلحين، فضلاً عن هيمنة فن المسرح انشغال المسرحيين والمؤلفين بالواقع السياسي والاجتماعي.
وأود أن أُضيف أن أخلاقيات البحث العلمي تقتضي عليًّ التأكيد على أن صياغتي لهذا المقال بحلقاته المختلفة لم تأت من فراغ، بل استلزمت قراءات مستفيضة عن فن الأوبرا من مصادر مختلفة ولولا ضيق الحيز الكتابي لرصدتها تفصيلاً.
أحلام مواطنة عُمانية
في الذكرى الثانية والثلاثين (نوفمبر 2002م) من عمر النهضة المجيدة، كتبت في إحدى مقالاتي المتضمنة موضوعًا عن الأوركسترا السيمفونية العمانية، إنني ككثيرين غيري أحلم بوجود دار للأوبرا على أرض السلطنة، وها هو الحلم يترجم اليوم إلى واقع . كما كتبت أيضًا بأنني أحلم باليوم الذي يتجاوز فيه العماني من عازف ماهر في الأوركسترا إلى مؤلف لها. كما أحلم بمعهد لفن الباليه على أرض السلطنة، ولا زلت أحلم بمشروع تعليمي وفني متكامل يقوم بتعليم وتدريب النشء العُماني إناثًا وذكورًا الرقص والتمثيل والغناء والموسيقى بكافة أنواعها ، حتى يكون لدينا في المستقبل كتيبة كاملة من الفنانين الحقيقيين. كما أحلم بدورات تدريبية جادة ومنظمة ومتخصصة من قِبَل خبراء عالميين يعلمون الشاعر العُماني كيفية كتابة النص الأوبرالي شكلاً ومضمونًا، كما أحلم وأحلم وأحلم... ولن أتوقف عن الحلم بمنظومة متكاملة للفنون الراقية بالسلطنة،
وكيف لي أن أتوقف عن الحلم وقائدنا المفدى فارس يحول من أحلامنا واقعًا معيشًا.